سعة رحمة الله بعباده
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾218
الإنسان المؤمن يرجو ويخاف، فلو بنيت علاقته مع الله على الرجاء دون الخوف اختلت هذه العلاقة، ولو بنيت علاقته مع الله على الخوف دون الرجاء لاختلت هذه العلاقة، فالأنبياء والمرسلون والمؤمنون الصادقون يعبدون الله خوفاً وطمعاً ورغبة ورهبة، فهذا الوضع المتوازن يعني ترجو رحمته وتخاف عذابه، ترجو رحمته بحيث لا تطمع فيها فتقع في معصية، وتخشى عذابه بحيث تحملك هذه الخشية على طاعته دون أن تيأس من رحمته. فهي قضية فيها توازن دقيق، ترجوه دون أن تطمع في رحمته طمعاً يحملك على معصية الله، وتخافه خوفاً دون أن يحملك على اليأس من رحمة الله، فالخوف طبيعي ما لم يحملك على اليأس، والرحمة طبيعية ما لم تحملك على معصية، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إنهم يعبدون الله رغباً ورهباً، فهؤلاء الذين آمنوا الإيمان الحقيقي وهاجروا تركوا المنكر، وجاهدوا في سبيل الله، وبذلوا الجهد ليصلوا إلى مرضاة الله عز وجل وهؤلاء في الأساس يرجون رحمة الله، ولذلك دعا النبي عليه الصلاة والسلام فقال
(اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا))[ مسلم عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ]
أنت لو عملت عملاً صالحاً يجب أن تبقى قلقاً لعل في هذا العمل نية لا ترضي الله، ولعل في هذا العمل حظاً من حظوظ الدنيا، استعذ بالله من عمل لا يرفع، ولذلك فقد ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أن الجنة التي هي فضل الله عز وجل لا يكفيها العمل بل لا بد من رحمة الله، هذا الكلام يحتاج إلى تفصيل.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ ﴾
إلا أن يتغمدني الله برحمته. فالجنة محض فضل تحتاج إلى رحمة الله، إن كل عملك في الدنيا لا يكفي ثمناً للجنة، ولكنه قد يكون سبباً لدخول الجنة، وفرق كبير بين أن يكون العمل سبباً، وبين أن يكون العمل ثمناً، كل عملك الصالح لا يكفي ليكون ثمن الجنة. إلا أن يتغمدني الله برحمته. والجنة محض فضل، والنار محض عدل.
كل ما عند الله من خير متمثل في رحمته :
أيها الأخوة:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ ﴾
ما هي رحمة الله؟
الله عز وجل يقول:﴿ وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾[ سورة الزخرف: 32 ]
أي شخص يملك أعمالاً تجارية تدر عليه ألوف الملايين
وإنسان يملك شارعاً بأكمله بكل أبنيته في أروج عواصم العالم،
وإنسان يملك شركة متعددة الجهات والفروع ولها حجم مالي خيالي،
﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾
إن رحمة الله عز وجل مطلق عطائه من معانيها السلامة سلامة الصحة، وسلامة القلب، وسلامة النفس، ومن معانيها أن يحبك الناس، وأن تكون آمناً مطمئناً، وأن تصل نعم الدنيا بنعم الآخرة، وأن تنتهي بك دنياك إلى جنة عرضها السماوات والأرض، ورحمة الله أثمن شيء يملكه الإنسان.
إن كل عطاء الله، وكل علم الله، وكل رحمة الله، وكل عدل الله، وكل قوة الله، وكل ما عند الله من خير متمثل في رحمته.
﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾[ سورة فاطر: 2 ]
إذا حجبت عنك رحمة الله وجاءتك الدنيا بحذافيرها فأنت أشقى الأشقياء، ولو حجبت عنك الدنيا كلها ومنحت رحمة الله فأنت أسعد السعداء، ورحمة الله أنك مع الله. إنك تستفيد من علم الله، ومن قدرة الله، ومن فضل الله، ومن غنى الله، وكل ما عند الله بين يديك إذا كنت موصولاً به، وكل ما عند الله محجوب عنك إذا كنت مقطوعاً عنه، إذاً رحمة الله مطلق عطاء الله عز وجل.
الصحابة الكرام عاشوا حياة خشنة لكنهم كانوا مغموسين برحمة الله، بينما أناس كثر في أعلى درجات الغنى والقوة حجبت عنهم رحمة الله فهم في أشقى حال
أسباب رحمة الله :
1 ـ طاعة الله وطاعة ورسوله :
﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾[ سورة آل عمران ]
2ـ تلاوة القرآن :
﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾[ سورة الأعراف ]
رحمة الله تأتيك من تلاوة القرآن، لذلك قال بعض العلماء: إذا قرأت القرآن فلم تشعر بشيء، وصليت فلم تشعر بشيء، وذكرت الله فلم تشعر بشيء، فاعلم أنه لا قلب لك، ابحث عن قلبٍ ذاكر، عن قلبٍ موصولٍ بالله عز وجل.
3 ـ الإحسان :
الآن: الطاعة طريقٌ لرحمة الله، تلاوة القرآن طريقٌ آخر لرحمة الله، هناك طريق ثالث.
﴿ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾[ سورة الأعراف ]
بالطاعة يرحمك الله، وبتلاوة القرآن يرحمك الله، وبالإحسان يرحمك الله.
راتب النابلسى
موسوعة النابلسى للعلوم الاسلامية