العناية بالضعفاء من محاسن الإسلام
2 أكتوبر, 2016 4٬042 مشاهدة
يقولُ نبينا محمدٌ – صلى الله عليه وسلم – كما في “صحيح البخاري” – رحمه الله -: «وهل تُنصَرُون وتُرزَقون إلا بضُعفائِكم».
الضعفُ حالةٌ مُلازِمة لكل البشر، فالإنسانُ خُلِق من ضعفٍ، وهو إلى الضعفِ صائِر، فلقد قضَت سنةُ الله في الطبيعةِ البشرية أن كل إنسانٍ في هذه الدنيا، لا بُدَّ أن يمُرَّ بحالاتٍ من الضعفِ، ووَهنِ القُوَى، والحاجةِ إلى الآخرين.
ويكفِي العاقل النظرُ في حالِ الإنسان، وتدرُّجه ونموِّه، فهو يُولدُ ضعيفًا مُحتاجًا إلى من يهتمُّ به ويرعَاه، ثم يكبرُ فيمنَحهُ الله القوةَ، ليرُدَّ الجميلَ إلى من اهتمَّ به ورَعَاه، ثم يُردُّ إلى حالِ إلى الضعفِ مرةً أخرى، ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ [الروم: 54].
وإذا كان ذلك كذلك، فإن حقًّا على العاقلِ اللبيبِ أن ينظُرَ فيمن ابتُلُوا بضعفٍ دائِم، وعجزٍ مُقيمٍ في صُروف الدهر، وظُروف الأحوال.
ومن أرادَ استِحضارَ بعض حالات الضعف وصُور العَجز، فليستذكِر وليستحضِر حالةَ صِبيةٍ صغارٍ، وذُريةٍ ضُعفاء، ساعةَ احتضارَ وليِّهم، ودُنوِّ أجلِه، يترُكُهم هذا المُحتَضَر يخشَى عليهم تقلُّبَاتِ الأيام، وقسوةَ الحياة، وجفاءَ من يرجُوه، وصُدودَ من يُؤمِّلُه، يتمنَّى لهم وليًّا مُرشِدًا يُعوِّضُهم مكانَه، ويُوالِي عليهم بِرَّه وإحسانَه، ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [النساء: 9].
الضعَفَةُ والضِّعافُ والضُّعفاءُ أسماءٌ وألقابٌ لصُورٍ غير محصُورة، وفِئاتٍ غير محدودة، الضُّعفاءُ والمُستضعَفُون والضعَفَة هم ذوو الحاجات غيرُ القادِرين، من الفقراء، والمساكين، والمرضَى، والغُرباء، وأبناء السبيل، واليتامَى والأرامِل والأيامَى، والموقوفِ عليهم في الأوقافِ، والمُوصَى لهم وبهم في الوصايا، والمظلومين، وأصحابِ الحقوق من العمال، والأسرَى، والأُجَراء، وذوي الاحتياجات الخاصَّة، والواقِعين في الكوارِث والنَّكَبات، والمُشرَّدِين والمُهجَّرين، صِغارًا وكِبارًا، رِجالاً ونِساءً، ممن لا يستطيعُ الوصولَ إلى حقِّه بنفسِه، إما لعَجزِه، وإما بسببِ قوةِ الظالمِ وجَبَروتِه من أصحابِ الولايات، والوظائِفِ في السلطات، والأوقاف والوصايا وغيرها.
إنهم ضُعفاءُ في أبدانهم، أو ضُعفاءُ في عقولهم، أو ضُعفاءُ في أحوالهم وظروفهم، إنهم ضُعفاءُ لأنهم يفتقِدُون القوةَ في مُواجهة الكُبَراء والظَّلَمة، عجَزَةٌ لا قُدرةَ لهم لأخذِ حُقوقهم، ورَفع المظالِم عنهم، فهم أصحابُ عِللٍ مانِعَة من كمالِ القُدرة في التصرُّف وحُسن النظر.
ولمزيدٍ من البيان في أنواع هؤلاء وصفاتهم،تأمَّلُوا هذه النصوصَ الشرعية من الكتاب والسنة- حفِظَكم الله وحفِظَ بكم وحفِظَ لكم-:
يقول – عزَّ شأنُه -: ﴿وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ﴾ [البقرة: 266]، وقال – جل وعلا -: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [النساء: 9]، ويقول – جل وعلا -: ﴿فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ﴾ [البقرة: 282]، وقال – عزَّ شأنُه -: ﴿لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [التوبة: 91]، ويقولُ تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا﴾ [النساء: 75]، ويقولُ – عزَّ شأنُه -: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ﴾ [القمر: 10]، وقالَ تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28].
وفي الحديث: «ألا أُخبِرُكم بأهل الجنة؟ كل ضعيفٍ مُستَضعَف لو أقسمَ على اللهِ لأبرَّه»؛ رواه البخاري.
وفي روايةِ غير البخاري: «ألا أُخبِرُكم بخيرِ عبادِ الله: الضعيفُ المُستضعَف ذو الطِّمرَيْن لا يُؤبَهُ له، لو أقسمَ على اللهِ لأبرَّه».
وقال – عليه الصلاة والسلام -: «أيُّكم أمَّ الناسَ فليُخفِّف؛ فإن فيهم الضعيفَ والسقيمَ وذا الحاجة»؛ رواه مسلم.
ويقولُ – عليه الصلاة والسلام -: «اللهم إني أُحرِّجُ حقَّ الضعيفين: اليتيمَ والمرأةَ»؛ حديثٌ حسن.
ومعنى أُحرِّجُ: أي أُلحِقُ الحرَجَ، وهو الإثمُ لمن ضيَّع حُقوقَهما.
ويقول – عليه الصلاة والسلام -: «السَّاعي على الأرملةِ والمسكينِ كالمُجاهدِ في سبيلِ اللَّهِ»، وأحسبُه قال: «كالقائمِ لا يفتُرُ، وَكالصَّائمِ الذي لا يُفطِرُ»؛ متفقٌ عليه.
ومن الدعاء: «اللهم إنِّي أعوذُ بِكَ من غَلَبَةِ الدينِ وقَهرِ الرجال».
ولا يكونُ القهرُ إلا في حالِ الضعفِ.
وفي حديثٍ صحيحٍ صريحٍ: «لا قُدِّسَت أمَّةٌ لا يُعطَى الضَّعيفُ فيها حقَّه غيرَ مُتعْتعٍ».
أي: غير قَلِقٍ ولا خائِفٍ، ولا مُلحَقٍ به أذًى.
من أجلِ هذا كلِّه ومن أجل أن تنتَصِرَ الأمة، ويُبسَط لها رزقُها، ويُبارَك لها في أعمالِها، وتجتمِع كلمتُها، قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «ابغُوني في ضُعفائِكم؛ فإنما تُرزَقُون وتُنصَرون بضُعفَائكِم».
وهنا وقفتان – حفِظَكم الله -:
الوقفةُ الأولى: في قوله – صلى الله عليه وسلم -: «ابغُوني».
قال أهلُ العلم: “أي: اطلُبُوا محبَّتِي وقُربِي ورِضايَ في ضُعفائِكم، وتفقَّدُوا أحوالَهم، واعتَنُوا بهم، واحفَظُوا حُقوقَهم، وأحسِنُوا إليهم قولاً وفعلاً، واجبُرُوا قلوبَهم؛ ذلك أن نبيَّكم محمدًا – صلى الله عليه وسلم – هو حامِلُ الكلِّ، وكاسِبُ المعدُوم، والمُعينُ على نوائِبِ الحقِّ.
فلقد كان – عليه الصلاة والسلام – يأتي ضُعفاء المسلمين بنفسِه، يعودُ مرضَاهم، ويشهَدُ جنائِزَهم، فهو ربيعُ اليتامَى، وعِصمةُ الأرامِل، وفي المغازي، كان – عليه الصلاة والسلام – كان يتخلَّفُ في المسِير، فيُزجِي الضعفاء، ويُردِفُهم، ويدعُو لهم، وكان يمشِي مع الأرمَلةِ والمسكين حتى يقضيَ حوائجهم.
الوقفةُ الثانية: في قوله – صلى الله عليه وسلم -: «فإنما تُرزَقُون وتُنصَرون بضُعفائِكم». وفي روايةِ البخاري: «وهل تُرزَقُون وتُنصَرون إلا بضُعفائِكم».
وقد ترجمَ لذلك الإمامُ البخاري في “صحيحه” فقال: “بابُ من استَعانَ بالضعفاء والصالحين في الحروب”.
قال أهلُ العلم: “لا ينبَغي الاستهانةُ بشأن الضعفاءِ والعاجِزِين في أمورِ الجهادِ والنُّصرة، ولا في مواردِ الرزقِ والمكاسب”.
لماذا – رعاكُم الله -؟ لماذا كان النصرُ يُستنزلُ بالضعفاء، والرزقُ يُستجلَبُ بالمُستضعَفِين؟
لأن النصرَ والرزقَ كليهما من عند الله، لا تجلِبُهُما الأسبابُ الماديةُ وحدَها؛ بل للأسبابِ المعنوية عظيمُ الأثر، وبالغُ التأثير.
والضعفاءُ الذين لا حولَ لهم ولا قوةَ لا يركَنُون إلى مالٍ، ولا يأوُون إلى جاهٍ، يعلَمُون حقَّ العلم، ومُوقِنُون حقَّ اليقين أن كفايتَهم ورزقَهم ونصرَهم من عند الله، وأنهم في غايةِ العَجز، فتنكسِرَ قلوبهم، وتتوجَّه إلى الله ثِقتُهم، ويصدُقَ على الله اعتِمادُهم، ويكونَ بالله طمَعُهم، فيُنزِلُ الله من نصره ورِزقِه ما لا يُدرِكُه القادرون؛ بل يفتحُ الله للقادرين بسببِهم من أسباب النصرِ والرزقِ والصلاحِ والطمأنينةِ والبركات، ما لم يخطُر لهم على بالٍ، ولم يدُر لهم بخيالٍ، ولله جنودُ السماوات والأرض، الملكُ مُلكُه، والأمرُ أمرُه، والتدبيرُ تدبيرُه، والكلُّ تحت قَهره، لا إله إلا هو.
فإذا كان الناسُ لا يُشاهِدُون إلا الأسبابَ الحسِّيةَ، من القوةِ والشجاعةِ القولية والفعلية، والقُدرة الظاهرة على المكاسِب، وتحصيلِ الأرزاقِ فهذا قُصورٌ في النَّظر، ونظرٌ للأمورِ على غير حَقائِقِها، ذلك أن ثمَّة أسبابًا معنويةً عظيمة؛ من قوةِ التوكُّل على الله، وكمالِ الثقةِ به، وصدقِ التوجُّه والطلبِ منه.
وهذه الأمور تَقوَى وتظهرُ عند الضعفاء والعاجِزِين، فيُنزِلُ الله من نصره ورِزقِه، ومن دَفع المكارِه، وجَلبِ المنافعِ والخيرات والبركةِ والفتحِ ما لا يُدرِكُه القادرون.
بل إنَّه – سبحانه – يُيسِّر للقادرين بسبب الضعفاء والمُستضعَفين من الرزقِ ما لم يكُن لهم في حسابٍ، بل قد جعلَ الله أرزاقَ هؤلاء العاجِزِين على يدِ القادِرِين، وأعانَ القادرين على ذلك، وكلُّ هذا مُجرَّبٌ مُشاهَد. فتبًّا للمحرُومين، وما أعظمَ رِبحَ الموفقين.
وبعد .. حفِظَكم الله:
النصرُ بالضُّعفاء، والرزقُ بالمُستضعَفين عُدَّةٌ تُدَّخَر، ووَعدٌ لا يَخيبُ، بنصرهم وحفظِ حُقوقهم، وحُسنِ إيمانهم، وتوكُّلهم يُدفع البلاءُ، وتتَّسِعُ الأرزاق، ويُبارَك في الأموال والأعمال والأعمار والأوقات، وتنتصِرُ الأمة، وتُرفَع الغُمَّة – بإذن ذي الجَبَرُوت والعِزَّة -.
فمن راضَاهم واستَرضَاهم، وقامَ على خِدمتهم، وقضَى حوائِجَهم، وسعَى في شُؤونِهم، ورَفعِ الحَرجِ والمُعاناة والظُّلمِ عنهم، رزَقَه الله وأعانَه، ونصَرَه وأيَّدَه، وحفِظَه ووفَّقَه وسدَّدَه، وأنزَلَ عليه برَكتَه، وزادَه من فضلِه؛ فالضعفاءُ ليسُوا عِبئًا على الأمة؛ بل هم سَنَدُها، ومصدرُ عِزِّها، وقوَّتها ونصرِها ورخائِها.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: 52].
ودينُ الإسلام يُولِي كلَّ من يُعاني أي حالٍ من أحوالِ الضعفِ اهتمامًا كبيرًا، وإنَّ الأمة التي يشعرُ فيها الضعفاءُ من الفقراء، والمساكين، والعَجَزة، والمظلومين، والمكلُومين من الأرامِلِ، واليتامَى، والأيامَى، والغُرباء، وأبناء السبيلِ، الضَّعَفةُ الذين يشعُرُون بمكانتهم في الأمة، وأهميَّتِهم، واهتِمام أصحابِ المسؤوليَّات بهم، هي أمةُ الرحمة والعِزَّة، والتكافُل والإنسانية، وهي المرزُوقةُ المنصورةُ المحفُوظة، الخيرُ والبركةُ والنصرُ وسَعةُ الرزقِ، واجتِماعُ القلوبِ لا يحِلُّ في الأمةِ إلا حين تحفَظُ حُقوقَ ضُعفائِها، وتستجلِبُ رِضاها.
———————
معالي د. صالح بن حميد